الدولار بين الهيمنة والتآكل التدريجى..

خبراء ومصرفيون يرصدون مستقبل العملة الأمريكية وسط تحولات جيوسياسية واقتصادية عالمية

الثلاثاء 01 يوليه 2025 -02:50

تقرير : ندى عادل
"أنيس" : الدولار الأمريكى فقد جزءًا من سيطرته لكن انهياره مستبعد

"فؤاد": يواصل الدولار هيمنته على التجارة العالمية رغم تراجع حيازته كعملة احتياطية

"أبو الفتوح": لن ينهار لكنه يفقد احتكاريته مع صعود أنظمة دفع بديلة وتوسع البريكس


رغم التحديات المتزايدة التي تواجه الاقتصاد الأمريكي، لا يزال الدولار يحتفظ بموقعه كعملة مهيمنة على النظام المالي العالمي، إلا أن هذه الهيمنة لم تعد مطلقة كما كانت، في ظل تنامي الاتجاهات العالمية لتقليل الاعتماد على الدولار وتنويع الاحتياطيات النقدية، فمع تصاعد الديون الأمريكية، وتوسع العقوبات الاقتصادية التي تُفرض عبر الدولار، بدأت العديد من الدول في تطوير أنظمة دفع بديلة.

استطلعت "البوصلة" آراء مجموعة من الخبراء المصرفيين والاقتصاديين حول مستقبل العملة الأمريكية ومكانتها في نظام مالي عالمي أكثر تنوعًا في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم مؤخراً.

بداية، قال محمد أنيس، الخبير الاقتصادي، إن الدولار الأمريكي ما زال يهيمن على نحو 80% من حركة التجارة العالمية، رغم التراجع الملحوظ في نسبته من احتياطات البنوك المركزية حول العالم، والتي انخفضت تدريجيًا إلى نحو 58% خلال العقود الماضية، نتيجة عدة عوامل اقتصادية وهيكلية.

وأوضح أن إحدى أبرز المشكلات التي تواجه الاقتصاد الأمريكي هي ارتفاع نسبة الديون السيادية وعدم استدامتها، مشيرًا إلى أن هذه الأزمة تعود جذورها إلى ما بعد الحرب الباردة، حين بلغت الديون الأمريكية نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي، لتواصل الارتفاع حتى وصلت حاليًا إلى 120%.

وأضاف أن الولايات المتحدة تعاني من "عجز مزدوج"، يتمثل في عجز تجاري سنوي يبلغ 1.2 تريليون دولار، إلى جانب العجز المزمن في الموازنة العامة، وهو ما يدفعها إلى الاعتماد سنويًا على الاقتراض لسد هذه الفجوات، مما يثير مخاوف المستثمرين الدوليين بشأن استقرار الدولار على المدى الطويل.

وأشار الخبير إلى أن هذه المعطيات أدت إلى تقليص حيازة الدولار كعملة احتياطي نقدي في البنوك المركزية العالمية، خاصة أن تقييم قوة أي عملة يعتمد على مدى استدامة ديون الدولة المصدرة لها، كما أكد أن الاستخدام المكثف للدولار في فرض العقوبات الاقتصادية، كما في حالات روسيا وإيران وفنزويلا، تسببت في تآكل الثقة بالعملة الأمريكية كأداة محايدة، ودفع العديد من الدول إلى تنويع أصولها الاحتياطية بعيدًا عن الدولار، تجنبًا لتجميد أموالها أو الحد من سيادتها المالية.

ورغم هذا التوجه العالمي، شدد "أنيس" على أنه من الصعب أن تحل أي عملة أخرى محل الدولار في المدى القريب، مرجعًا ذلك إلى غياب المقومات الكاملة لدى المنافسين المحتملين مثل اليوان الصيني أو اليورو الأوروبي.

وأوضح أن العملة المهيمنة على النظام المالي الدولي لا بد أن تصدر عن قوة عظمى تتحكم في الممرات الملاحية الدولية، وتتمتع عملتها بقبول واسع في التجارة العالمية، وهي شروط لا تزال متوافرة حاليًا في الولايات المتحدة وحدها، مشيرًا إلى أن العالم يتجه تدريجيًا نحو نظام نقدي متعدد الأقطاب، حيث ستزداد حصة العملات الأخرى في التجارة والاحتياطيات الدولية، دون أن يعني ذلك اختفاء هيمنة الدولار بشكل مفاجئ، بل تحولها من سيطرة مطلقة إلى تفوق نسبي في ظل التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية.

من جانبه أفاد محمد فؤاد، الخبير الاقتصادي، أن الدولار الأمريكي لا يزال العملة الاحتياطية الأولى عالميًا، لكنه شهد تراجعًا في حصته من الاحتياطيات النقدية العالمية إلى نحو 58% مقارنة بأكثر من 70% في بداية الألفية.

وأشار إلى تصريحات الدكتور محمود محيي الدين التي أكدت أن التحدي لا يكمن في زوال الدولار، بل في تقليل الاعتماد الأحادي عليه من خلال التجارة العالمية والاحتياطات النقدية.

وأوضح "فؤاد" أن عدة عوامل ساهمت في هذا التراجع، منها الإفراط الأمريكي في استخدام الدولار كسلاح اقتصادي من خلال العقوبات الدولية على دول مثل روسيا وإيران وفنزويلا، إضافة إلى تفاقم العجز التجاري والمالي الأمريكي الذي يثير مخاوف بشأن استدامة الدين العام، كما لعب تسريع اعتماد أنظمة الدفع البديلة مثل النظام الصيني CIPS وتقنيات البلوك تشين دورًا في تقليل هيمنة الدولار، فضلاً عن توجه الدول المتضررة إلى فك الارتباط بالدولار، حيث بدأت روسيا والصين في استخدام الروبل واليوان في تسويات تجارية متبادلة.

ونقل فؤاد عن الدكتور محيي الدين قوله: "حين يُستخدم الدولار بشكل مفرط في العقوبات، فإنه يتحول من عملة حيادية إلى أداة ضغط، مما يُضعف الثقة في حياديته كمخزن للقيمة"، مؤكدًا أنه على الرغم من هذه التحديات، فإن هيمنة الدولار لن تنتهي بشكل حتمي، مشيرًا إلى أن اليوان الصيني يشهد صعودًا في التسويات الثنائية لكنه لا يتمتع بسيولة أو حرية في حركة رؤوس الأموال كما يفعل الدولار، في حين يعاني اليورو من انقسامات سياسية وهيكلية داخل الاتحاد الأوروبي.

وتابع "فؤاد" أن التكتلات الاقتصادية مثل مجموعة البريكس تناقش إنشاء عملة مشتركة وبدائل تمويل التجارة بعيدًا عن الدولار، لكنها تواجه تحديات هيكلية كبيرة تفوق تلك التي واجهها الاتحاد الأوروبي. وأضاف أن الدولار لن يفقد هيمنته فجأة، بل سيشهد "تآكلًا تدريجيًا" مع تنامي استخدام العملات الأخرى، حيث يتحول من "هيمنة مطلقة" إلى "تفوق نسبي" نتيجة للعوامل الجيوسياسية والضغوط النظامية وصعود أنظمة دفع وسيولة متعددة.

وأكد أن الدولار لن ينهار، لكنه لم يعد اللاعب الوحيد في الساحة العالمية، مستشهدًا بمقولة الدكتور محيي الدين: "المستقبل لن يكون للدولار وحده، بل لتعدد العملات، مع بقاء الدولار في الصدارة ولكن ليس بالإطلاق الذي عهدناه".

قال الخبير المصرفي، هاني أبو الفتوح، إن هيمنة الدولار الأميركي على النظام المالي العالمي بدأت تتراجع تدريجيًا خلال السنوات الأخيرة، مشيرًا إلى انخفاض حصته في الاحتياطيات العالمية من نحو 70% في عام 2000 إلى نحو 59% بحلول عام 2023، وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي، ورغم هذا التراجع، إلا أن الدولار لا يزال العملة المهيمنة في التجارة الدولية، إذ يُستخدم في أكثر من 80% من المعاملات التجارية العالمية، متفوقًا بفارق واسع على عملات أخرى مثل اليورو واليوان الصيني، رغم التقدم النسبي في استخدامهما.

وأوضح أن هذا التراجع يعود إلى مجموعة من العوامل، أبرزها السياسات الاقتصادية التوسعية في الولايات المتحدة، مثل برامج التيسير الكمي وارتفاع العجز المالي، التي تثير مخاوف بعض الدول بشأن استقرار الدولار على المدى البعيد، مشيرًا إلى أن استخدام الولايات المتحدة للدولار كأداة للعقوبات الاقتصادية، لا سيما ضد دول مثل روسيا وإيران، عزز رغبة عدد من الدول في تقليل اعتمادها عليه وتنويع احتياطياتها.

وأضاف أن هذه التوجهات دفعت بعض القوى الاقتصادية الكبرى، وعلى رأسها روسيا والصين، إلى تطوير أنظمة دفع بديلة، مثل نظام CIPS (نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود باليوان)، والذي يتيح إجراء معاملات تجارية بالعملة الصينية بعيدًا عن الرقابة الأميركية ونظام "سويفت"، في محاولة لبناء نظام مالي موازٍ أكثر استقلالية.

وفي الوقت نفسه، لفت إلى أن العملات المنافسة للدولار، مثل اليورو واليوان، تواجه تحديات بنيوية، فاليورو يعاني من تفاوت السياسات الاقتصادية داخل منطقة اليورو، فيما يظل اليوان خاضعًا لرقابة حكومية صارمة تحد من مرونته وجاذبيته كعملة احتياطية وعالمية.

وبشأن تكتل "البريكس"، أوضح أن طموحات هذا التكتل في تقليل الاعتماد على الدولار تواجه تحديات حقيقية، أهمها غياب عملة موحدة واختلاف الهياكل الاقتصادية بين الدول الأعضاء، ورغم بعض الخطوات نحو تسوية المعاملات التجارية بالعملات المحلية، إلا أن إنشاء نظام مالي متكامل بديل يتطلب تنسيقًا طويل الأجل واستقرارًا أكبر في البيئة الاقتصادية والسياسية.

واختتم تصريحاته مؤكدًا أن الدولار قد يفقد بعضًا من هيمنته العالمية في السنوات المقبلة، لا سيما في ظل تصاعد دور العملات الرقمية وتزايد الدعوات نحو التنويع، إلا أن قوة الاقتصاد الأميركي وعمق الأسواق المالية الأميركية سيظلان عاملين رئيسيين في دعم مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية يصعب استبدالها في المدى القريب.