د. محمد أبو أحمد

عصر جديد من الطبقية ..

الإثنين 14 أبريل 2025 -04:25

في نهاية الأسبوع الماضي، في أثناء حضوري حفل بأحد الفنادق الراقية المطلة على نهر النيل بوسط القاهرة ، وجدت نفسي في محادثة ساخنة مع شخص مسؤول لديه وفرة من التعليم العالي - ولكنه يدافع بحماس عن قطعة من النظرية الإستعلائية الطبقية التي عفا عليها الزمن.

فهو يدعوا إلى إزالة كافة الاحياء القديمة أو ما يطلق عليها "الشعبية" وأن يجعلها أحياء ترفيهية لجذب السائحين, وإنشاء أبراج ادارية للأعمال ، ويرى أن تهجير سكان تلك الأحياء إلى مدن جديدة، تخصص لهم هو ما سيحقق النفع لهم من وجهة نظره دون أن يأخذ في إعتباره أن تلك الأحياء في الأصل لم تكن عشوائية وأن السائح يحتاج بشكل أو بأخر للإختلاط بالشعوب في البلدان التي يقوم بزيارتها وليس فقط التواجد في أماكن جميلة تطل على البحيرات أو الأنهار , لأن ذلك لو كان هدفه الأساسي لما خرج من القارة الأوربية التي تتمتع الكثير من دولها بمناظر خلابة وطبيعة رائعة  ..

ومن وجهة نظر هذا الشخص أنه يمكن أن يتم ذلك عن طريق إزالة كافة المناطق السكنية بداية من شارع الهرم بمحافظة الجيزة ومحيطها حتى الوصول إلي نهر النيل في وسط البلد وامتداده يميناً حتى أحياء " بولاق  و شبرا وروض الفرج"  ويساراً "بداية بالقصر العيني و المنيل ومصر القديمة ".. 

تلك الأفكار التي قد تبدوا في ظاهرها تهدف إلى التطوير ولكنها في الحقيقة تقوم على فكرة التهجير ، قد تم مناقشتها عبر أجيال مختلفة وتم رفضها عالميا على نطاق واسع بالفعل فهل يمكن أن يتم الآن الترويج لها وقبولها؟  أم أنه يريد لنا أن ندخل في عصر جديد من الطبيقة  !؟ .

 الأمر الأكثر قلقاً بالنسبة لي هو أن بعض أفراد الطبقات المختلفة من المجتمع المصري أصبحوا يرددون ذلك الكلام ويقوموا بالترويج له دون أي خجل !!

على كل حال سرعان ما أصبحت المحادثة فيما بيني وبين هذا الشخص غير منطقية أو عاطفية وغير مريحة للغاية فهو لا يرى أي مشكلة في هدم الأحياء التاريخية وذكريات ملايين البشر و نقل الاف الأسر والعائلات إلي مناطق جديدة دون سبب واقعي أو مبرر لذلك  . 

تلك اللحظة بلورت شيئاً بالنسبة لي: نحن لم نعد نقترب فقط من عصر تكون فيه الحقيقة مهددة - بل نحن نعيش فيه بالفعل. 

واقع يشعر فيه الزيف بأنه مألوف، ويتم فيه تسليع المعلومات لاستقطاب البشر والتلاعب، بعقولهم  وعاداتهم وتقاليدهم . 

والآن، ومع إضفاء الطابع الديمقراطي على أدوات الذكاء الاصطناعي مثل التزييفات العميقة، يمكن لأي شخص لديه نية كافية ايهام السلطة، وتوليد روايات مقنعة عن امتلاكه أفكار تقدمية ولكنها في الحقيقة تفتقد الرؤية المتكاملة،  فالبشر ليسوا اشياء يمكن نقلها أو العبث بهم وبذكرياتهم واحلامهم..

فحتى لو كنت  أنا معارضاً للعشواىية في تلك الأحياء الفقيرة، لا يمكن أن أتقبل فكرة محو التاريخ وطمس الهوية، فكل دول العالم المتقدم تفتخر بامتلاكها أحياء شعبية وتسعى إلى تطويرها ومحاولات الدمج لسكانها مع التطور الحضاري ، وذلك عبر توفير الخدمات والأفكار المبتكرة التي تساهم في التطوير وتقديم الخدمات وتنفيذ أعمال الصيانة مع الإبقاء على الطابع التاريخي .

  نحن عاطفيون، متحيزون، ومبرمجون لتصديق الأشياء التي تبدو سهلة ومألوفة,  ولذلك هناك من يستغل ، تلك العاطفة لرسم افكار تبدوا وردية عبر حملات من  المعلومات المضللة - سواء كانت اجتماعية أو ثقافية،  ولكن في الحقيقة فإن تلك الأفكار آثارها مدمرة على الترابط المجتمعي وتساهم في إذكاء النزعة الطبقية وتأجيج نيران الحقد المجتمعي .

لذا فيجب على قادة الرأي والفكر وعلماء الإجتماع ، التصدي لهذا النوع من الأفكار التي تسعي إلى هدم التنوع الثقافي للمجتمع ، فالمعركة ضد المعلومات المضللة ليست معركة تقنية فقط - بل هي معركة نفسية. 

خاصة وأننا اصبحنا في عالم يمكن فيه تزييف أي شيء و أصبحت الحقيقة هدفاً متحركاً، في هذا العصر ، والدفاع عنها يحتاج إلى مهارة يجب صقلها باستمرار..