يشارك كل اسرائيلي منذ نعومة أظافره في حفل مايسمى بـ"عشاء الفصح" (ليل هسيدر)، فحين يكبر الأطفال، يحملون معهم دائما، حيثما ذهبوا، تلك الذكريات من البيت الإسرائيلي، من الشعور بـ "معا"، بالإضافة إلى المغزى الظاهر والمستتر لهذا الطقس الذي يلقن لهؤلأء الأطفال. إن من وضعوا طقوس حفل "عشاء الفصح" قبل مئات السنين، وظفوا فيه الحواس الخمس الرئيسة: النظر، والسمع، والشم، واللمس، والذوق، في استيعاب المعلومات التاريخية والدينية. لذلك يشمل الحفل "المأدبة الثابتة" المشتملة علي شرب كؤوس النبيذ الأربع، ولمس أشياء رمزية، واللعب مع الأولاد، وينتهي بنشيد جماعي. إن التأثير المُتراكم لهذا الطقس على المشاركين فيه كبيرا جدا وفاعل للغاية. من هنا فإن كتاب "هجادا" الفصح يبلور، أكثر من أي كتاب اسرائيلي آخر، الإدراك االديني الواعي وغير الواعي، في الماضي والحاضر والمستقبل، ويؤثر أيضا على السلوك الإسرائيلي الجماعي، وسياسة الدولة. هناك عدة مستويات يمكن من خلالها للتعامل مع كتاب "هجادا" ومحوريته في العقل الديني الجمعي: - على المستوى الأدبي: فإن "هجادا" الفصح عمل قليل الشأن من الناحية الأدبية؛ لأنه يفتقد إلى الجمال الفني ويكرر نفسه في مواضع عدة، من هنا ينظر له على أنه عمل سطحي غير متعمق، على الرغم من أن التوراة عمل أدبي له مكانة سامية. صحيح لا يمكن لكتب دينية اسرائيلية لاحقة، مثل مشنا وجمارا، أن ترتقي إلى المستوى الأدبي نفسه، ولكنها تحتوي على مقاطع ذات قيمة أدبية, أما كتاب "هجادا" فلا تشمل على مثل هذه السمات، فهو عمل يحمل رسالة أيديولوجية تهم مستقبليها في الماضي والحاضر والمستقبل. - على المستوى التاريخي: يفتقد هذا العمل إلى القيمة التاريخية، مع أنه يستند إلى أحداث تاريخية؛ لأنه لايقدم حقيقة تاريخية. فهناك حقيقة تاريخية يؤكدها علماء آثار بأنه لم يكن هناك خروج من مصر. فلا خروج من مصر ولا 40 سنة من التيه في الصحراء، ولا احتلال لأرض كنعان كما جاء في كتبهم الدينية. فقد كان لدي الفراعنة كُتّابْ حاذقون وصفوا كل الأحداث، فقد تم تحليل آلاف الجداول على الجداريات الفرعونية. فليس ممكنا أن يقع حدث مثل الخروج من مصر دون أن يكتبوا عنه، سواء كان عدد الخارجين من بني إسرائيل 600,000 كما جاء في التوراة، أو 60,000، أو حتى 6,000، أو إذا غرقت في ذلك الحدث قوات فرعون. والأمر بالنسبة لاحتلال أرض كنعان، فبسبب حرص الفراعنة الأمني، وبعد صدمتهم من اجتياح الهكسوس، الذي جاءوا من شمال مصر، وظف المصريون بشكل دائم عددًا كبيرًا من العيون، والمسافرين، والتجار وآخرين لمتابعة ما يحدث على أرض كنعان المجاورة (فلسطين). لقد كتبوا في الجداريات والألواح ما يحدث في كل بلد بشكل دائم. ما كان ليمرُّ اجتياح كنعان، حتى إذا كان محدودا، دون أن يثبتوه كتابةً. علاوة على ذلك، لم تذكر المدن المصرية- الواردة في التوراة خلال تلك الفترة، حتى وإن كانت موجودة أثناء تدوين التوراة، في القرن الأول أو الثاني قبل الميلاد. من هنا يبحث علماء آثار مسيحيون ويهود، منذ أكثر من مائة عام، وبشكل مكثف، عن دلائل تشير إلى احتلال أرض كنعان فلم يجدوا. ولا تستقي "هجادا" قوتها من مصداقيتها التاريخية؛ لأنها بمثابة أسطورة تقوم على الخيال، لتشكل قاعدة لدولة بكاملها، وتوجه سلوك الصهيونى حتى يومنا هذا، فلولا قصة الخروج من مصر، ماقامت إسرائيل على هذه الأرض. - على المستوى الجماعي: تقدم أسطورة "هجادا" على أنه قصة جماعة صغيرة تتمرد على ماتعتبره طغيانا، جماعة تتمرد على سيدها الفرعون، لتقدم كتابا دينيا هو التوراة، التي تضمنت شرائع وأحكام سماوية. من هنا ينظر البعض إلى الخروج من مصر على أنه نصر للنفس البشرية، قصة الخروج هي وحي لكل جماعة مقهورة وبالفعل، تم استخدامها كوحي في العديد من المرات في السابق. استقى مؤسسو الولايات المتحدة معتقداتهم منها، ويفسر ذلك الانحياز الأمريكي الأعمي لإسرائيل وكأنها الدولة الأضعف أمام المارد الصهيوني تهب للنجدة في كل عثرة وتحشد الجيش الأمريكي سكل الإمكانيات الجوية والبحرية والاستخباراتية, فلنتصور وضع إسرائيل في يوم كيبور 1973 أو يوم 7/10/2023 فيما لولم تهرع أمريكا لنجدتها. على مستوى الطرف الآخر: حين نقرأ الحدث التوراتي بدقة، بدون شحنة دينية، تثار تفاصيل تعكس أفكارا مختلفة. فنجد على سبيل المثال الضربات العشر. وهنا يبرز تساؤل مهم: لماذا تمت معاقبة المصريين على ممارسات الفرعون؟ لماذا فرض الرب عقوبات قاسية على المصريين؟ لماذا لوث مياه النهر بالدم؟، لماذا نشر البرَدِ والجراد في البلاد؟ ولماذ قتل كل ابن بكر في مصر؟، وهذه الضربات أو الآيات يؤمن بها اتباع الأديان السماوية، وأن كان زعماء الصهيونية ملحدين، وعلى رأسهم زعيم الصهيونية السياسية تيودور هيرتسل. جاء في التوراة أنه قيل لأبناء إسرائيل، لدى خروجهم من مصر، من المسموح لهم سرقة ممتلكات جيرانهم المصريين، وهذا التصرف يسمى في القيم الإنسانية "خيانة"، لتصبح سمة أساسية في الشخصية الإسرائيلية فيما بعد. إن أي شخص يفكر بعمق في البعد الأخلاقي لاحتلال كنعان يعرف أنها كانت موطن شعوب أخرى، على الرغم من وعد الله لبني إسرائيل، فقد قال لهم- كما جاء في التوراة- أن يقتلوا هذه الشعوب، مركزا على شعب عماليق، فأمرهم بإبادته، وقد وجدنا هذا واضحا جليا فيما صرح به نتنياهو خلال حرب غزة التي تدور رحاها الآن. وفي إطار الحدث الديني التاريخي نقرأ في التوراة أنه بعد مرور عدة أجيال أنزل النبي شموئيل الملك شاؤول عن عرش مملكته؛ لأنه كان رحيما مع أسرى الحرب ولم يقتلهم، وهو السلوك الوحشي الذي نجده الآن في حرب غزة الدموية حاليا، وماوجدناه في التعامل مع الأسري في حروبها السابقة. من المعروف أن هذه النصوص كتبت قبل أكثر من ألفي سنة في ظل أخلاقيات وبديهيات مختلفة. من هنا لم يكن مستغربا الآن أن يقرأ المعلمون والتلاميذ "هجادا" في مدارسهم، وبشكل خاص في المدارس الدينية، في إطار إبادة السكان غير الإسرائيلين في البلاد بجدية تامة. - على مستوى المغزي: كتبت قصة "هجادا" لتحدث عملية ترسيخ، وإكساب وجهة نظر دينية أو سياسية في اللاوعي الجمعي -الإسرائيلي. وهناك جملتان في "هجادا" لهما تداعياتهما وانعكاستهما الكبيرة على الحاضر. = تعبر أولهما عن ادعاء يتردد كثيرا حول الموقف من "الأغيار" (غير الإسرائيلين): "يقومون علينا في كل جيل وجيل للقضاء علينا." ولاتنطبق هذه الجملة على زمان معيّن أو مكان معيّن، ليبدو كحقيقة لاتقبل الشك. فالأولاد يسمعون ويرددون ذلك عشية الفصح، وهم بين أحضان آبائهم، يكررون سنويا. = أما الجملة الثانية فتكمل الأولى لتمثل دعوة للرب: "اسكب غضبك على الأمم التي لم تعرفك... لأنهم أكلوا يعقوب، أكلوه وأفنوه. اسكب عليها غضبك، وألق سخطك عليهم. لاحقهم وأبدهم تحت سماء الله." وهنا نؤكد على أن مصطلح "جوييم" (أغيار) يقدم بني إسرائيل على أنهم "أمة مقدسة" وغير الإسرائيلين أمم أقل شأنا وأهمية. وطالما يعيش الإسرائيلين خارج مايسمونه "الشتات" (أرض إسرائيل)، تصبح الرغبة في الانتقام مفهومة. ولكن الواقع تغيّر مع إقامة الدولة، فاليهود في إسرائيل لايفتقرون إلى الحماية كما كان في السابق على حد زعمهم. فلا حاجة لإسرائيل اليوم للاعتماد على الرب بعد الآن لينتقم لهم من الظلم الذي لحق ويلحق بهم. من هنا نسمع هناك من يقول: "يمكننا أن نسكب غضبنا بأنفسنا، على جيراننا، الفلسطينيين وسائر العرب، على الأقليات التي تعيش بينا، على ضحايانا". هذا هو المفهوم الحقيقي للـ"هجادا". فإذا كان قد كتب من قبل ومن أجل اسرائيليين يرون أنفسهم ضعفاء ويعيشون في خطر فقد كان هذا الطقس يرفع معنوياتهم مرة في السنة، ليشعروا بالأمان وسط عائلاتهم. حين تخرج الأمور عن سياقها التاريخي والديني وتطبق على وضع مُغاير، يمكن لرواية الفصح "هجادا" أن تدفع الحكومة المتطرفة في إسرائيل إلى أن تسلك طريقا متطرفاً متشدداً. ** دكتور عبدالخالق عبدالله جُبة أستاذ بكلية الآداب -جامعة المنوفية