شهر رمضان هو شهر الخير والبركات، شهر الصيام والقيام، شهر القرآن والرحمة. فيه تُفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، وتُصفَّد الشياطين. قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185).
وفي هذا الشهر العظيم، يتضاعف الأجر، وتُستجاب الدعوات، وتُغفر الذنوب لمن صامه إيمانًا واحتسابًا. والصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو تربية للنفس، وتزكية للروح، وتعويد على التقوى والإحسان.
وقد ورد في فضل العمرة في رمضان حديث النبي صلى الله عليه وسلم: {عمرة في رمضان تعدل حجة معي}. هذا الحديث يبيِّن فضلًا عظيمًا للعمرة في هذا الشهر، ولكن هل يكفي هذا الفضل ليحمل المسلمين من كل أنحاء العالم على أداء العمرة في رمضان؟ وهل هذا هو المقصد الأكبر الذي يريده الله منا في هذا الشهر الكريم؟ في هذه الأيام، نرى مكة المكرمة تزدحم بالمعتمرين، وكأن الناس قد اكتشفت الكعبة لأول مرة! المشهد يفرح القلب، فهو يعكس حب المسلمين لبيت الله الحرام وحرصهم على الطاعة.
ولكن هل هذا هو كل ما يريده الله منا في رمضان؟ هل يريد منا أن ننشغل بالشكليات دون أن نلتفت إلى جوهر العبادة وقيمها الأخلاقية والإنسانية؟ لننظر إلى الواقع: ارتفعت أسعار إيجار الغرف في الفنادق القريبة من الحرم لتصل إلى عشرات الآلاف من الريالات في الليلة الواحدة، خاصة في العشر الأواخر من رمضان. بل وصل الأمر إلى دفع مبالغ طائلة لحجز مكان في الصف الأول لأداء صلاة التراويح! أليس هذا انشغالًا بالشكليات على حساب الحقيقة التي يريدها الله منا؟ أليس هذا غفلة عن المقاصد الحقيقية للعبادة؟ الغفلة لا تعني بالضرورة الانحراف عن الطريق المستقيم، بل قد تأتي في صورة انشغال بالمحاسن والطاعات الشكلية التي تصرفنا عن فهم المقاصد الحقيقية للدين.
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: {أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وأشار بالسبابة والوسطى، وفرق بينهما قليلًا}؟ فهل صارت العمرة في رمضان أهم عندنا من كفالة اليتيم أو مساعدة المحتاجين؟ هل صارت صحبة النبي في العمرة أهم من صحبته في الجنة؟ نرى في العالم الإسلامي أزمات إنسانية كبيرة: الفقر، التشرُّد، الحروب، والأطفال اليتامى الذين يحتاجون إلى الرعاية والكفالة. في المقابل، نجد أن بعض الدول الأوروبية تتكفل بآلاف اليتامى المسلمين، ثم تنصِّرهم بسبب غفلتنا عن واجبنا تجاههم. أليس من الغفلة أن ننفق آلاف الريالات على غرفة تطل على الحرم، بينما ننسى أن الله يرانا في كل مكان، وليس فقط في الحرم؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قضى لأخيه المسلم حاجة، كان له من الأجر كمن حج واعتمر}؟ أين نحن من قضاء حوائج إخواننا المسلمين الذين يعانون في فلسطين، والصومال، وسوريا، واليمن، والعراق، وغيرها من الدول؟ أين نحن من مساعدة المحتاجين وإغاثة الملهوفين؟ هل العبادات الشكلية هي كل شيء؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}؟ هل يريد الله منا أن نصلي عشرين ركعة في التراويح، ثم نجلس لنغتاب الآخرين أو نستهزئ بهم؟ أليس هذا هو الامتلاء الديني الزائف الذي يجعل الشيطان يفرح بنا؟ بل ربما يدفعنا الشيطان إلى المزيد من هذه العبادات الشكلية ليضمن أن نبقى غافلين عن جوهر الدين ومقاصده. قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
أليس من الغفلة أن يصوم الإنسان لساعات طويلة، ثم يفطر على طعام يكلف مئات الريالات، بينما هناك من لا يجد لقمة العيش؟ أليس من الغفلة أن ننفق بسخاء على الولائم الرمضانية، بينما نرمي الفائض من الطعام في اليوم التالي؟ في المقابل، نرى رئيس الوزراء الكندي -الذي يُوصف بأنه غير مسلم- يصوم رمضان مشاركةً لمواطنيه المسلمين، ثم يتبرع بما وفره من مال في صومه للجمعيات الخيرية.
أليس هذا درسًا لنا؟ أليس هذا دافعًا لنا لإعادة النظر في كيفية أدائنا لعباداتنا؟ برأيكم، هل حان الوقت لأن نعيد النظر في فهمنا للعبادات؟ هل حان الوقت لأن نركز على جوهر الدين وقيمه الأخلاقية والإنسانية، بدلًا من الانشغال بالشكليات والمظاهر؟ لنعمل على تحقيق التوازن بين العبادات الشكلية والمقاصد الحقيقية للدين، حتى نكون من الذين يحسنون صنعًا في الدنيا والآخرة.